عطالله وهبة


قبل عملية ٧ تشرين الأول كان إلحاح حزب الله السياسي اشتقاق الطريق نحو ما سيسميه لاحقاً "وحدة الساحات". أغرق السياسة اللبنانية وأنهكها بمؤتمرات عربية وقومية وإسلامية لترسيخ هذا الشعار.

هذا السياق جعل بيروت قرينة تلك التي كانت عليها خلال الحرب الأهلية. لم يترك الحزب دولة فاشلة أو تيارات انشقاقية في بلدانها إلا واستدعاها ليعلن أنه رأس حربة في تحرير فلسطين، من السيد نصرالله إلى عبد الملك الحوثي وإبراهيم رئيسي وإسماعيل هنية، ما عدا بشار الأسد أو من ينوب عن نظامه مؤخراً، وأنه هو من يقود هذه "الساحات" و"يوحدها".

مصطلح "الساحة" أعاد إلى أذهان اللبنانيين ما كانت عليه البلاد في السبعينات والثمانينات تحت وطأة السلاح غير الشرعي الذي كانت تمتلكه منظمة التحرير الفلسطينية وتهدد به العالم كله. هذا جعل الوطن ميدان نار.

وعلى هذا المثال كانت "وحدة الساحات" التي أدخلها "حزب الله" إلى الأدب السياسي اللبناني. في هذه اللحظة وقع البلد ضحية سياسية واقتصادية. وهذا كان نتيجة حتمية لعدم قدرته على الالتزام بسياسات المحاور التي خبرها ماضياً وانتهت إلى نفس النتيجة. كان انتماء البلد أو توجيهه لقوى محورية يؤدي إلى مأساة تصيب قادته وتاريخنا القريب والبعيد في هذا السياق مليء بالأمثلة.

أبعد من ذلك، ذهب حزب الله بالبلد وأهله حد تحميله وزر "اعتقاد ديني"، وكان التعبير الأمثل في هذا السياق اعتبار الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين "كياناً مؤقتاً"، حتى أصبحت هذه العبارة عنواناً شائعاً في أدبيات أهلية معينة، وعلى سائر اللبنانيين تحمل عواقبها فكان انهيار البلد وعزله عن العالم.

كون حزب الله تعبيراً إيرانياً ناجزًا فهذا ليس بجديد، فهو لا يُعَرَّف نفسه إلا بصفته فصيلاً من فصائل "التشيع الإيراني" الذي انتشر تحت عنوان "تصدير الثورة"، والذي هدد الأمن القومي العربي ودوله العربية.

الأسوأ أن "تصدير الثورة" نجح بسبب عوامل إقليمية ودولية، فسقطت بعد بيروت سوريا والعراق واليمن، وأصبحت دول أخرى تواجه أزمات مماثلة كما هو الحال في البحرين.
هذا النجاح "الصافي" لإيران كان في احتلالها أربع عواصم عربية عبر تنظيمات محلية نمت وانتشرت تحت شعار "تحرير فلسطين". لكن عملية عبور غلاف غزة في ٧ تشرين الأول حملت ما لم تتوقعه إيران وأذرعتها، فسقطت جميع الهتافات حول تحرير القدس. حتى عملية "طوفان الأقصى" لم تحمل مطلباً سياسياً واحداً للقدس "المراد تحريرها". هكذا هوت السرديات الأهم عند حزب الله، فتحول من قوة قادرة على العبور نحو الجليل الأعلى إلى "قوة" اشغال فاشلة، لأن الاحتلال الإسرائيلي أظهر بوضوح أنه هو من يشغل الحزب ويعيق قدرته.

أكثر من ذلك، فشل الحزب حتى في "قدراته الاستثنائية" في حماية لبنان، وهو الذي صم آذان اللبنانيين عن مبرر تسليحه. وهذا ما سيتضح في فشله في ٨ تشرين الأول، أي في اليوم الثاني للنار التي اندلعت في المنطقة. فخرج العدو الإسرائيلي عن كل قواعد الاشتباك التي كانت مفروضة على لبنان. وأول هذا الخروج كان في اغتيال القيادي الحمساوي صالح العاروري في الضاحية وصولاً إلى اغتيال الموساد لمحمد سرور في بكفيا، وبينهما ما حدث في حراجل وجدرا والهرمل وبعلبك والبنيه.
"كل هذا ويدير اللبنانيون ظهورهم حتى الساعة عن معنى سقوط القرار السياسي لوطنهم بيد الجمهورية الإسلامية الإيرانية. كما أنهم (اللبنانيون) لا يتفحصون الأكلاف الاقتصادية على وطنهم المُفلس التي بلغت ١٠ مليارات دولار على ما يقول وزير الاقتصاد. 

وليس المال مهماً مقابل غيره من الخسائر، إذا اقترب عدد الشهداء من الـ ٤٠٠ وأكثر من ١٠٠ الف مهجر. وتزداد الأمور سوداوية عند النظر إلى القرى التي تحولت ركاماً.
 هكذا وضع كان محسوباً بدقة نوعية من قبل فريق سياسي عريض إذ رصد بحساسية سياسية رفيعة مآل الأمور، حيث جعل الحزب من لبنان "ساحة" بكل معنى الكلمة، سواء كان ذلك من أجل الدفاع عن نظام الأسد الذي "عاد إلى الجامعة العربية" وحضر القمة الإسلامية في السعودية في ١١/١١، وأعلن فيها صراحة عن تأييده للتطبيع مع إسرائيل إذا كان ذلك يأتي بحلول للشعب الفلسطيني. كما فشل الحزب في حماية المستشارين العسكريين والأمنيين الإيرانيين على الأراضي السورية، ولم يظهر أي دور مساند لسوريا في الحروب التي يشنها المحور من اليمن إلى لبنان، عداك عن عدم مشاركة بشار الأسد أو من ينوب عن نظامه إلى جانب اسماعيل هنية والسيد نصرالله وعبد الملك الحوثي وابراهيم رئيسي في مؤتمر المقاومة الأخير في بيروت، وهو النظام الذي من أجله دخل حزب الله إلى سوريا ليشارك في حربها عام ٢٠١٣ ليدافع عن بشار الأسد بالآلاف من شهدائه و ليحفظ نظامه الذي لا يبدو في تناغم تام مع المحور الايراني. 

في هذا السياق، يصبح السؤال حول دور حزب الله المستقبلي في المنطقة ضرورة سياسية وطنية قصوى، بعد فشله في تحقيق ما ادعاه وزعمه. فقد سقطت سردياته كلها، وفشل في أدواره بشكل مجتمع، مما أسفر عن تحميل البلد ما لا يُحتمل.

سردية الدفاع عن غزة سقطت وتحرير فلسطين سقطت، وسردية الدفاع عن لبنان سقطت، وسردية أنه يشكل "كمين متقدّم إيراني" لإسرائيل على حدودها مع لبنان، تستعملها إيران لتثبيت معادلة الردع مع إسرائيل إنما تجاوزتها إيران نفسها حينما قررت الرد بمفردها على إسرائيل من داخل أراضيها في ١٤ نيسان دونما الحاجة إلى حزب الله. السرديات السياسية كلها في مواجهة إسرائيل  لبنانيا وفلسطينيا وإيرانيا سقطت تباعًا.

نسأل ما هو دور حزب الله المستقبلي في المنطقة بعد انتفاء دوره القديم؟ وماذا سيفعل هذا الحزب مستقبلا؟

(هذه  الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )


المصدر : Transparency News