جوزف بو هيا - كاتب سياسي


في عالم السياسة والحكم، يقوم مبدأ القدرة على فرض السيطرة والحكم على مجموعة من الركائز الأساسية التي تحدد قدرة مجموعة على التأثير والحفاظ على السلطة. وفقًا لعدة دراسات متخصصة، تشمل هذه الأسس بشكل أساسي الولاء الشعبي المطلق، وتأمين مداخيل مالية ثابتة، وامتلاك قوة عسكرية متمكنة، وتوطيد العلاقات مع حلفاء خارجيين أقوياء. من خلال هذا المنظور، يبدو أن حزب الله قد نجح في تحقيق هذه الأهداف، بعضها بصورة مباشرة والبعض الآخر بطرق غير مباشرة، وهو الآن يسعى إلى ترسيخ هذه العناصر في الإطار القانوني والسياسي للدولة.

أولًا، حقق الحزب الولاء الشعبي من خلال الأيديولوجيا الدينية التي فرضت الالتزام الصارم بالمعتقدات والممارسات. حيث لعب الخوف من العقاب الإلهي دورًا رئيسيًا في ترسيخ الولاء وتجنب المعارضة. يُعد الانتماء الديني مصدرًا للهوية والأمان النفسي للأفراد، مما يجعل الخوف من العزلة الاجتماعية عاملاً قويًا يحد من التعبير عن الآراء المعارضة. كما استخدم الحزب الخطاب الذي يقسم الناس إلى مجموعات "نحن" مقابل "هم" لتعزيز الانقسامات وتبرير الخوف من المعارضة داخل البيئة الشيعية كحماية ضد التهديدات المزعومة. الاستخدام الاستراتيجي للنصوص والرموز الدينية عزز هذه الأيديولوجيات، حيث يُعتبر التشكيك بها بمثابة تحدٍّ للقوانين الإلهية. الضغط الاجتماعي والانتماء الجماعي فرضا بيئة تقل فيها المعارضة خوفًا من العقوبات الاجتماعية أو حتى العنف والاغتيالات التأديبية. بالإضافة إلى ذلك، منذ نشأته عبّأ الحزب ضد "التهديدات الخارجية" لتعزيز الوحدة الداخلية وتبرير القمع ضد المعارضين كجزء من دفاع "مقدس" عن المجتمع. هذه الأيديولوجيا فرضت سيطرة الحزب على البيئة الشيعية، عبر خلق جو يوحي بأن أي معارضة لحزب الله تُعتبر معارضة للدين، مما أثار خوف الناس من الوقوع في المحظورات.

ثانيًا، أنشأ حزب الله نظامًا ماليًا موازيًا للنظام المالي اللبناني من خلال "القرض الحسن". استطاع الحزب، بحجة المقاومة واحتياجاتها، إعفاء كبار التجار من دفع الرسوم الجمركية، مما منح هؤلاء التجار أفضلية على باقي تجار لبنان. ونتيجة لذلك، أصبحت مناطق الحزب مقصدًا لشراء البضائع بتكلفة أقل من باقي المناطق اللبنانية، مما سمح بتدفق الأموال إلى بيئة الحزب. كما شجع حزب الله وغطى الأعمال غير الشرعية مثل تجارة المخدرات والسرقات والتهريب، خصوصًا مع بدء تدخله في الحرب السورية واشتداد العقوبات الدولية على مصادر دخله التقليدية من أفريقيا وأوروبا. لقد أسهمت هذه العمليات غير الشرعية بشكل كبير في تدفق مصادر أموال هامة لتسليحه وتمويل مقاتليه ومؤسساته الاجتماعية. أدت سيطرة حزب الله على المالية اللبنانية إلى تعريض لبنان ومصرفه المركزي لأزمة كبيرة بين عامي 2019 و2020، حيث تبخرت أموال المودعين بسبب الفساد المستشري والمغطى من قبل الحزب. وعبر أموال الدعم التي أقرتها حكومة حزب الله، استفاد منها تجارة في تهريب البضائع المدعومة إلى سوريا، إيران، وبعض الدول الأوروبية والأفريقية.
ثالثًا، منذ تأسيسه في عام ١٩٨٢، بنى حزب الله مجموعاته العسكرية على يد أعضاء من الحرس الثوري الإيراني والتي تعدت حدود لبنان ومصالحه. تعمل هذه المجموعات المسلحة بشكل مستقل عن الجيش اللبناني، وتفتقر إلى الشرعية القانونية أو الرسمية. يمتلك الحزب بنية تنظيمية وقدرات عسكرية تتيح له تنفيذ عمليات عسكرية وأمنية متعددة. هذه القوات تقع تحت إشراف ودعم من جهات إيديولوجية متصلة بشكل مباشر بإيران، مما جعل دورها تحديًا للدولة الفعلية. تفوق قدرات الحزب العسكرية في بعض الجوانب قدرات الجيش اللبناني، خصوصًا في مجالات مثل الحرب اللامتماثلة، والحرب الهجينة، واستخدام الطائرات دون طيار، والحرب السيبرانية. وجود جيش موازٍ خلق تحديات جدية للأمن القومي والاستقرار الداخلي للدولة، حيث يعمل الحزب خارج نطاق الرقابة الحكومية، مما يزيد من صعوبة تطبيق القانون ويؤدي إلى تقويض سيادة الدولة.
رابعًا، نشأ حزب الله خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي تميزت بالتدخل الأجنبي وصعود الثورة الإسلامية في إيران. كجزء من هذه البيئة، اعتمد حزب الله على دعم إيراني كبير، ماليًا وعسكريًا وسياسيًا، الأمر الذي ساعده على تطوير قدراته العسكرية وتعزيز موقعه داخل النظام السياسي اللبناني. من خلال دعم حزب الله، وسعت إيران نفوذها في الشرق الأوسط، مستغلة الديناميكيات الطائفية والسياسية المعقدة في المنطقة. هذا الدعم ليس بمعزل عن السياسة الخارجية الإيرانية التي تهدف إلى تعزيز محور المقاومة ضد الأنظمة العربية في مسعى لتحقيق حلمها بالهلال الشيعي الخصيب. هذا الانسجام الطائفي عزز تحالف الحزب الخارجي. هذا التحالف أمن لحزب الله مكانة خاصة داخل لبنان، ليس فقط كقوة عسكرية بل كفاعل سياسي رئيسي. هذه القدرة على التأثير في الساحة السياسية اللبنانية تجعل من الصعب على الحكومة اللبنانية اتخاذ مواقف قد تتعارض مع مصالح حزب الله أو إيران. أما إقليميا، فالدعم الإيراني لحزب الله وسّع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وساهم في توتير علاقات لبنان الإقليمية، خاصة مع الدول التي تعارض النفوذ الإيراني، مثل دول الخليج.

في الختام، يبدو جليًا أن الحزب قد خطا خطوات متقدمة نحو تحقيق أهدافه عبر استراتيجيات متعددة الأبعاد تتناول الأسس الرئيسية للسلطة والنفوذ. نجاح حزب الله في ترسيخ وجوده كقوة فاعلة ومؤثرة على الساحة اللبنانية والإقليمية دفع به اليوم إلى مرحلة جديدة تستهدف تثبيت هذه المكتسبات عبر التغييرات القانونية والدستورية التي من شأنها توطيد دوره ونفوذه في النظام السياسي اللبناني. هذه الخطوة تمثل ذروة استراتيجيته، حيث تسعى لتحويل النفوذ المكتسب على أرض الواقع إلى سلطة مباشرة ومستدامة ضمن إطار الدولة. هذا التحول يحمل تداعيات بعيدة المدى على الهيكلية السياسية والاجتماعية في لبنان، مما يطرح تحديات جديدة أمام التوازن الداخلي والاستقرار الإقليمي. هنا يبرز سؤال حول مستقبل الدولة اللبنانية ومدى قدرة المعارضة على الخروج من المواجهة التقليدية للحد من السلطة المتزايدة لحزب الله وكيف ستتعامل مختلف القوى الخارجية مع هذا التحول الخطير.

 

( الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )