في 20 كانون الثاني الفائت، حطت طائرة الوفد الليبي في مطار بيروت الدولي. لحظتها، ظنّ أهل القضاء اللبناني أن تعاونًا -هو من الأول من نوعه- سينطلق بُعيد هذه الزيارة المرتقبة منذ أعوام. وظنّ المطلعون والمهتمون بقضية اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، أن هذه الزيارة ستكون بادرة لمعرفة ما حلّ بالصدر، عبر تقديم الدولة الليبية ما لديها، مقابل الإفراج عن نجل الرئيس الليبي معمر القذافيّ، هانيبعل، الذي لا يزال محتجزًا منذ نحو تسع سنوات في السّجون اللبنانية بتهمة التكتم عن معلومات.


هذه الآمال، سرعان ما أضمحلت، بعد أن سلكت القضيّة وما تحمله من تعاونٍ دبلوماسي عتيد، مسارًا مغايرًا عما هو متوقع ومرجو، ابتدأه الجانب الليبي الذي سُجل له "عدم جديّة" في تعاطيه مع الجانب اللبناني، وفق ما تقول مصادر قضائية.

مصير التعاون الدبلوماسي والقضائي
أولى بواد جمود هذا المسار، ظهرت بعد وصول الوفد الليبي، الذي أقيم على شرف زيارته تدابير أمنيّة ولوجستية مكثفة، لحماية الوفد وضمان عدم حصول أي تشنجات سياسية أو شعبية خلال الزيارة. وبعد اللقاء الافتتاحي وعقد اجتماعات مع وزير العدل اللبناني القاضي هنري الخوري، ومقرر لجنة المتابعة الرسمية لقضية إخفاء الصدر، القاضي حسن الشامي، لتأكيد نيّة التعاون المشترك، فجأة قرر الوفد الليبي العودة إلى بلده، بذريعة الانشغال بمهمة أخرى، ووعدوا بمعاودة الزيارة بعد أسبوع واحد فقط.

حتّى اللحظة لم يعاود الوفد زيارته. ورغم استمرار الاتصالات بين الجانبين، لم تحمل أي من المحادثات جدوى للقضية لناحية تحديد المواعيد الرسمية الجديدة، وبقيت الأمور معلقة عند هذا الحدّ. وقد سبق ووعدت وزيرة العدل الليبية أن الوفد سيأتي حاملًا معه تركيبة مختلفة من المعطيات، منها مستندات ومعلومات جدية قد تساعد الجانب اللبناني على الإحاطة بكافة الملابسات الّتي تدور حول قضية الصدر. بالمقابل، فإن مذكرة التفاهم بين البلدين تنصّ على اطلاع الجانب اللبناني على التحقيقات وحضورها، شريطة عدم طرح أسئلة، إلى جانب تقديمه لعددٍ من الاقتراحات.

وقد أعلنت مصادر قضائية بارزة لـ"المدن" عن "استعدادها الكامل للتعاون والتفاوض مع الجانب الليبي، مؤكدةً أنها بانتظار الزيارة الثانية للوفد الليبي للتباحث في هذه القضايا".

وحسب المعطيات القضائية التي حصلت عليها "المدن"، ففي العام 2012 قدم الجانب اللبناني لائحة للدولة الليبية، ضمت حوالى 30 اسمًا لشخصيات أمنية وسياسية ليبيبة، وذلك بهدف مطالبة الدولة الليبية بالتحقيق معهم، بشبهة تورطهم في القضية أو امتلاكهم للمعلومات. علمًا أن غالبية هذه الأسماء لم تعد على قيد الحياة. لذلك، فقد عمدت الدولة اللبنانية إلى حصر الأسماء لمرة ثانية بأربع شخصيات أمنية بارزة، لا تزال على قيد الحياة في ليبيا.

قضية هانيبعل
والمؤكد أن مسار التفاوض بين الجانبين اللبناني والليبي، كان سيشمل قضية احتجاز هانيبعل القذافي، الذي سبق -حسب معلومات "المدن"- أن كشف عن معلومات تتعلق بقضية الصدر، إلا أنه أبلغ القضاء اللبناني في الفترة اللاحقة أنه على جهوزية كاملة لتقديم جميع المعلومات للقضاء اللبناني، بشرط واحد أساسي، وهو تسهيل مغادرته للأراضي اللبنانيّة. وهو الأمر الذي رفضته السلطات اللبنانيّة. أي أنه سيدلي بجميع معلوماته بعد خروجه من الأراضي اللبنانية.

وحسب المعلومات التي حصلت عليها "المدن"، فإن هانيبعل القذافي سبق وأن حدد في فترة سابقة البقعة الجغرافية التي وُضع فيها الصدر ورفيقيه لفترة محددة بعد اختطافهم، وهي منطقة أمنية تدعى "جنزور". مؤكدًا أمام القضاء اللبناني أن الصدر وُضع في إقامة جبرية في هذه المنطقة لأكثر من أربع سنوات. كما حدّد هوية الشخصية الأمنية التي تنقلت في روما بثياب الصدر.

وحسب المصادر نفسها، فإن هانيبعل سبق وأن ردّد مرارًا أمام القضاء اللبناني أن "عبدالسلام جلود هو الذي ورّط ليبيا بهذه القضية". وجلود (79 عامًا)، هو عسكري ليبي، وعضو مجلس قيادة الثورة في ليبيا، ورئيس مجلس الوزراء الليبي السابق، واعتُبر الرجل الثاني في ليبيا بعد معمر القذافي حتى عام 1992، إلا أنه وبعد نشوب الخلاف بينهما، أعلن جلود اعتزاله السياسة وغادر ليبيا. وقد نشر مذكراته في العام 2022 بعنوان "الملحمة"، تناول فيها علاقته بالقذافي قبل أن تتدهور وتنقطع.

وبهدف حلحلة القضايا العالقة بين البلدين، فقد تدخلت سابقًا بعض الدول بهدف المساعدة، وقدمت ليبيا للدولة اللبنانية مجموعة جثامين لشخصيات كانت محتجزة داخل السجون الليبية خلال العقود الماضية، وفي المقابر الجماعية. وبعد إجراء الفحوص الطبية (DNA)، كانت النتائج سلبية، ولم تتبين أي معلومة حول الصدر ومصيره.

امتيازات هانيبعل القذافي
أما بما يتعلق بقضية احتجاز القذافي الإبن، فقد حصلت "المدن" على معطيات تؤكد أنه يتمتع بمعاملة خاصة داخل شعبة المعلومات. وخلال ولاية القاضي المتقاعد غسان منيف عويدات، الذي شغل منصب المدعي العام التمييزي، أعطي القذافي الإبن الكثير من الامتيازات التي لم يحظ بها أي موقوف آخر، وتمتع برعاية طبية داخل أهم المستشفيات في بيروت. وبعد تكليف القاضي جمال الحجار للقيام بمهام المدعي العام التمييزي، بعد إحالة عويدات إلى التقاعد، عُين للقذافي طبيب خاص لمتابعة حالته الصحية داخل شعبة المعلومات.

والمفاجأة هنا، أن من ضمن الامتيازات التي حظي بها القذافي دون غيره، أنه وبإشارة القاضي عويدات، أجريت له عمليات تجميلية، وأخرج من شعبة المعلومات التي يترأسها العميد خالد حمود بموافقته، نحو أحد أبرز المستشفيات في بيروت، بهدف إجراء عملية زراعة الشعر، ووثقت نتائجها "الناجحة" بالصور، كما أنه قصد أحد أشهر أطباء الأسنان في لبنان، بهدف ترميم وتصليح وتجميل الأسنان. بما معناه، أن شعبة المعلومات وفرّت للقذافي ظروف إقامة "فندقية" لم يحظ بها أي أحد آخر! ويمكن القول أيضًا، أنها شبيهة إلى حدٍ ما، ولو بنسبة قليلة، بالإقامة المميزة التي حظي بها "الفارّ" داني الرشيد داخل أمن الدولة، بمعية اللواء طوني صليبا، قبل أن يتم إلقاء القبض عليه مرةً أخرى.

على أي حال، يبقى التعويل الأساسي في الفترة الراهنة على تطبيق مذكرة التفاهم بين البلدين لحلحلة القضايا العالقة بينهما، حيث من الممكن أن تنعكس تداعيات هذه المذكرة إيجابًا على البلدين. 


المصدر : المدن